الحريري "يتسوّل" شعبيته المتراجعة من بوابة اقتراح رفع الحصانات!

التحري | | Saturday, July 31, 2021 1:35:47 AM


فتات عياد
لم يكن رفع الحصانات عن النواب المستدعين في قضية انفجار المرفأ يتطلب أكثر من دقائق معدودة في المجلس النيابي، لكن الرئيس سعد الحريري فضّل السير بالمثل القائل "هيدي دينتي الشمال" ممسكاً بها بيده اليمنى، بمعنى استبدال الطريق الأسلم والأقرب لرفع الحصانات، بآخر يستغرق وقتاً ودونه عقبات كثيرة. ويريد الحريري للبنانيين، أن يسلكوا طريق "ليلى" الذي نصحها بها "الذئب"، وكأن اللبنانيين ينقصهم مضيعة من الوقت، أو افتراس ذئاب المنظومة الحاكمة لـ"الحقيقة"!
وهو سعد الحريري ابن رفيق الحريري و"ولي الدم" في مقتل أبيه، الذي يطالب اليوم بتحقيق دولي في قضية انفجار مرفأ بيروت، في وقت تصارع فيه المحكمة الدولية لأجل لبنان خطر إقفالها جدياً، هي التي كلّفت اللبنانيين معارك سياسية وانفجارات دموية ومبالغ مالية طائلة. وفي وقت يبدو فيه الرجل غير مبال بمصير محكمة أنشأت للاقتصاص من قتلة أبيه و22 شخصاً آخرين، يحق للبنانيين التساؤل عن جدية طرحه "رفع الحصانات" في ملف انفجار مرفأ بيروت، طالما أن "الحقيقة" لم تكن في صلب أولوياته يوماً.

إثبات وجود

ورئيس تيار المستقبل الذي لم يزده اتهام المحكمة الدولية لسليم عياش، وهو عضو في حزب الله، مسؤولية مقتل والده إلا التصاقاَ بالحزب حتى بات مرشحه المفضل لرئاسة الحكومة، يدّعي الحرص على تصويب بوصلة التحقيق حول "من جلب النيترات إلى مرفأ بيروت"، غامزاً من قناة النظام السوري والحزب دون أن يسميهما، فيما يوقّع مع حزب الله الذي يصوب علناً على المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، "عريضة اتهام" نيابية لتحويل النواب المستدعين في الملف إلى محكمة خاصة للرؤساء، نصفها من النواب، ولم تنعقد يوماً، ما يعني الإبقاء على حصاناتهم ومنع ذهابهم للقضاء العدلي.
واقتراح قانون لرفع الحصانات عن الرؤساء بدءاً من رئيس الجمهورية، الذي طرحه الحريري، كآخر مناورته للبقاء بقوة في الساحة السياسية كرئيس كتلة برلمانية وازنة، بعد تعذر دخوله إلى السراي الحكومي إثر 9 شهر من التكليف دونما تأليف، دونه عقبات كثيرة، يعرفها الحريري جيداً.
وإذا كانت الأعمال بالنيات، فإن نوايا هذه الطبقة الحاكمة، تبقى موضع شك، هي التي لطالما اتسمت بـ"المكر"، على رغم تزيينها نواياها بشعارات، هي نفسها تعريّها عند أول معركة سياسية. لكن، ما هي ماهية المكر في اقتراح تيار المستقبل قانون رفع الحصانات عن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والنواب والوزراء والقضاة والمحامين. وما هي أبعادها؟

تاريخ في "الخطوط الحمر"!

وهي صفعة للعدالة الدولية واللبنانية أن تعلن المحكمة الخاصة بلبنان إغلاق أبوابها نهاية تموز الجاري. وشح أموال الدولة اللبنانية قد يهدر سنوات من التمويل دون أي محاسبة لمن قام بتنفيذ اعتداء 14 شباط 2005 الذي اغتيل جراءه الرئيس رفيق الحريري، في حين يهدد شح الرغبة الجدية بالعدالة لدى الأفرقاء السياسيين اليوم، خواتيم ملف التحقيقات بانفجار 4 آب 2020.
ولبنان المنهار على كافة الأصعدة، لطالما عانى فائضاً في الفساد و"شحاً" في المحاسبة. وتوق اللبنانيين لقضاء يحاسب الفاسدين والقتلة ليس بالأمر المستجد، إذ لطالما تمنى الشعب الذي يرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية غير مسبوقة، رؤية "ولو فاسد واحد في السجن". لكن حلمه دونه "حصانات أشد قساوة من حصانات النواب التي منحهم إياها الدستور، فهي قابلة للرفع، أما حصانات الطوائف والمذاهب والبيوت السياسية، فدونها الدم!
ومع تيار المستقبل تحديداً، بدأت القصة منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فأصبحت "الحريرية السياسية" منزهة عن التصويب والنقد، بعدما استمدت حصانتها من قداسة دم مؤسسها، الشهيد رفيق الحريري.
واستكمل صنع الحصانات في البيت الأزرق، مع مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان، وعبارته الشهيرة "الرئيس السنيورة خط أحمر".
هكذا إذاً، وعلى عكس تسلل العديد من الأيادي للمال العام، يد القضاء عاجزة عن فتح تحقيق جدي مع السنيورة. إذ أن خط دار الفتوى الأحمر، قطع يد القضاء، كحصانة "دينية" في دولة "مدنية"!
وتتالت الحصانات بعد السنيورة، فوزير الاتصالات السابق جمال الجراح المستدعى في ملف الاتصالات، كافأه تياره بإعطائه حقيبة وزارة الإعلام.
أما الرئيس سعد الحريري، فحصانته يستمدها من كونه "ولي الدم"، الكلمة التي ذكّر بها اللبنانيين مراراً في مؤتمره الذي أعلن فيه اقتراح مشروع قانون "رفع الحصانات".
والحريري "ابن رفيق الحريري" وهذا الإرث الذي ضمن له شيئاً من شعبيته بعدما قوضتها خياراته السياسية منذ دخوله المعترك السياسي، يضاف إليه قول الحريري أنه هو "ابن بيروت" كلعب على وتر من هتف يوماً "الله حريري طريق الجديدة".
وليست صدفة أن يمرر رئيس تيار المستقبل كلمة "أنا ابن بيروت، وهذه مدينتي"، مرات عدة في خطابه، فالعاصمة هي التي انفجر مرفأها في 4 آب، وشهدت ثالث أكبر انفجار كيماوي في العالم. ومع امتعاض أهلها من "عريضة الاتهام" و"إعاقة الحريري للعدالة"، هم الذين طالبوا معه بمحكمة "لأجل لبنان" منذ 15 عاماً، كان لا بدّ من اللعب على وتر "الانتماء" المناطقي .
أما قوله أنه "ولي الدم". فهي معزوفة لطالما استثمرها لكسب جمهور والده الشهيد. كما ساوى الحريري بينه وبين أهالي شهداء المرفأ لناحية "أولياء الدم"، وأوحى بأن مسار المظلومية بين انفجار العام 2005 وانفجار العام 2020، واحد، في محاولة لتحصين قرارات تياره السياسية في ملف التحقيقات بانفجار المرفأ.
ويخشى الحريري رفع الحصانة عن النائب نهاد المشنوق، تخوفاً من أن تكر السبحة. فتطال الرئيس نجيب ميقاتي الذي دخلت شحنة النيترات في عهده، او تطال الحريري نفسه في حال تبين لاحقاً انه علم بوجود النيترات في المرفأ عندما كان رئيساً للحكومة...
وعندما تم توقيف رئيس الهيئة المؤقتة في المرفأ حسن قريطم مثلاً، لم يدعمه الحريري مباشرة، نسبة لهول الكارثة، ووجوب ايجاد "كبش محرقة" من فئة الموظفين.
لكن عندما وصل الموس للذقن، واستدعي الرئيس حسان دياب للتحقيق، خاف الحريري على كرسي الرئاسة الثالثة الذي لطالما حسبه مكتوباً باسمه. فهبّ لزيارة دياب واضعاً حصانة عليه بالقول إنّ "التعدي على الدستور والادعاء على رئاسة الحكومة أمر مرفوض".
واستدعاء دياب يعتبر سابقة قد تجر لمحاسبة رؤساء حكومات سابقين في ملفات أخرى، فتكرس ثقافة المحاسبة، والحريري ليس بهذا الغباء ليرفع الحصانة "الدينية" عن نفسه!

شحادة: نفاق سياسي

من جهتها، تضع المحامية ديالا شحادة اقتراح كتلة المستقبل لجهة "رفع الحصانات" في خانة "المزايدة"، فهذا "نفاق سياسي لا يستند إلى نية جدية ولا يأتي ضمن سياق سياسي يوفر البرلمان حظوظ نجاحه". حتى ان "إجراء كهذا لا بطرح قانونياً بالصورة التي طرح فيها".
في السياق، توضح أن "لا قدرة لقانون واحد على رفع الحصانات فالقصة بحاجة لتعديلات دستورية". مذكرة بأن "الدستور هو الذي تكلم عن حصانات النواب والوزراء ما يتطلب تعديله إضافة إلى تعديل النظام الداخلي الخاص مجلس النواب الذي تطرق بدوره لمسألة الحصانات".
ومن منطلق أنه لا يمكن إقرار قانون يكون مناقضاً لشيئ ورد في قانون آخر، سيما إن كان بحجم حصانة، تلفت شحادة إلى أنه "لا يمكن تجاهل القوانين التي أتت بالحصانات، ما يعني وجوب تعديلها". وتعطي مثالاً عن أساليب التعديل، كإضافة عبارة "تستثنى هذه الحصانة لمرة واحدة في ملف انفجار المرفأ...".
وفي إطار وضع الأمور في سياقها، تذكّر بأننا "نتحدث عن مجلس نيابي ننتظر منه إقرار هكذا تعديلات، وهو حالياً لا يقبل بإعطاء إذن للتحقيق مع نائبين بمعرض عملهما كوزراء وليس كنواب".
من هنا، تضع شحادة طرح الحريري في خانة المزايدة السياسية بهدف "شحذ قاعدة شعبية لم تعد موجودة، خصوصاً بعد اعتذاره عن تشكيل الحكومة وتراجع شعبيته إلى حدودها الدنيا".
وتسأل "إذا كان الحريري جدياً في طرحه وما يظهره من نية لإسقاط الحصانات في قضية 4 آب، كان الأجدى به حين تم الإدعاء على دياب من قبل قاضي التحقيق السابق فادي صوان، ألا يصطّف مع رؤساء الحكومات السابقين تحت شعار حماية مركز رئاسة الحكومة". واصفة هذا الاصطفاف بالمذهبي السخيف الذي حاول الحريري تكريسه بوجه التحقيقات بقضية بحجم تفجير مرفأ بيروت.

المتاجرة باسم الحقيقة

ولسنوات، استثمر الحريري ببطئ مسار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وانتظار "الحقيقة"، فكسب شعبية معموديتها "الشهادة" و"الدم". وشفعت له مراراً حقيقة أنه "ابن رفيق الحريري". وها هو استنزف الكثير من رصيد هذه المعمودية، فما كان منه إلا أن زايد على أهالي ضحايا المرفأ بـ"ولاية الدم".
أبعد من ذلك، حاول الحريري الإيحاء أنه هو الذي ظُلم في 4 آب، فهو الذي "سيجلب" للناس حقهم عبر المطالبة بتحقيق دولي. وبعد أن أفلست معاركه شبه الوهمية مع حزب الله، هي قضية جديدة تستقطب الشعبية والولاء، مع مفارقة وحيدة وحاسمة هذه المرة، الحريري ليس ولي الدم!
أما تلطي الرجل خلف حجة الحرص على الدستور والقانون، فساقط مع شمول الدستور نفسه إمكانية رفع الحصانات عن النواب. لكن الحريري يحاول في الشكل فتح جبهة مع رئيس الجمهورية عبر إظهار السعي لرفع الحصانة عنه وما يعنيه هذا من تقليص امتيازات الرئيس "الماروني". لكن في المضمون، هي رحلة جديدة من المعارك "الدونكيشوتية" للحريري، يستفيد منها هو وعون على السواء!

بحث

الأكثر قراءة