قضية عبد الله الساعي... قضية شعب منهوب

التحري | فتات عياد | Friday, January 21, 2022 11:00:41 PM
فتات عياد


فتات عياد

عام 2011 شهدت تونس شرارة الثورة التي ما زالت تضرب بها الأمثال. وفيما يتهامس اللبنانيون فيما بينهم من هو محمد البوعزيزي لبنان، خرج اللبناني عبد الله الساعي ليس ليحرق نفسه، بل ليهدد بفعل الحرق لاسترجاع وديعته. فعل أزكى لدى أصحاب الحق روح "الأمل" في أوج متلازمة "اليأس" التي أصابت اللبنانيين بعد عامين من الأزمة. والساعي لم يضرم النار في جسده، لكن استحصاله على وديعته كاملة، أشعل شرارة أمل قد لا تنطفئ، في جسد شعب كاد ليقال عنه أنّ "
الضرب بالميت حرام"، ليتبين مجددا، أنه لا يضيع حق وراءه مُطالب...

وشنت أقصى أنواع الهجمات على الساعي من قبل جمعية المصارف والمسؤولين الحريصين على المصارف لا على أموال الناس في المصارف، لكن أين كان هؤلاء عندما ضربت سيدتان ضرباً مبرحاً قبل ايام في أحد فروع المصارف في الطريق الجديدة في بيروت؟ وأين كانوا عندما هربت أموال كبار المودعين مع اتضاح الأزمة المصرفية منذ سنتين، وتواطأ نواب الأمة لعدم اقرار الكابيتال كونترول، فيما ترك لصغار المودعين ثمن الانهيار ليدفعوه وحدهم عبر تعاميم مصرف لبنان إن بالهيركات على ودائعهم، وإن بحجزها لأجل غير مسمى ربطاً بحل اقتصادي غير متضحة معالمه بعد!

وأي منظومة تلك التي قد يعوّل الناس على استرجاعها لحقوقهم، تلك التي سرقتهم على مدى ٣٠ عاما، وتنتهز اليوم حقيقة إفقارهم، بغية إغراقهم باليأس لإنقاذها من براثن المحاسبة؟

ومع هذا، أثارت قضية الساعي الجدل بين من يئس من استرداد حقه عبر دولة القانون لأنه يئس من غياب القانون عن الدولة، وبين من يخشى "شريعة الغاب" رافضاً الاعتراف بوجودها. من هنا، لا بدّ من قراءة قانونية وإنسانية في آن لما أقدم عليه الساعي.
فماذا يقول أحد المحامين الموكلين بالقضية، أيمن رعد، وماذا يقول والد الساعي؟ وماذا تقول التجربة اللبنانية حول "دولة القانون" و"شريعة الغاب"؟

الساعي "رضي" والمصرف "ما رضي"!

والساعي ذاق الأمرّين، فعمل في الغربة وشهد أزمة فنزويلا حيث تبددت سنوات الشقاء العمر في لحظات، ثم عاد الى لبنان، بلده الأم، خالي الوفاض، وابتاعت العائلة أرضا ليفتتح بها محل خضار يسترزق منه، وأودع مبلغاً من قيمة الأرض التي تم بيعها في البنك، فوقعت الأزمة في لبنان.

وحاول الساعي حتى اللحظة الأخيرة، التفاوض مع المصرف، وقبل بالخسارة وأخذ خُمس قيمة وديعته البالغة ٥٠ الف دولار على هيئة شيك مصرفي يصرفه في السوق السوداء. لكنّ الساعي "رضي" بهكذا حل مرغماً بعد سرقة محله، والمصرف "ما رضي". ونتيجة ديون متراكمة على محله، وحاجته الماسة للوديعة، وكونها حق قبل كل شيء، كان ما كان...
ودخل الساعي المصرف في جب جنين في البقاع الغربي، وهدّد بحرق نفسه بمادة البنزين بهدف الضغط على موظفي المصرف بغية إرجاع وديعته فكان له ما أراد.

وفي حديث للتحري، يوضح المحامي أيمن رعد، وهو أحد موكلي الساعي، أنّ "الساعي حصل على وديعته عبر transaction قام بها أحد موظفي الفرع على جهاز الكومبيوتر وفق الأصول المصرفية وقام بتوقيع حصوله على مبلغ ال٥٠ ألف دولار قبل أن يغادر ويعطي المال لزوجته التي توارت عن الأنظار ويسلم نفسه للقوى الأمنية".

وعن مصير المبلغ المالي، يلفت إلى أنّ "النيابة العامة أخذت قراراً اعتبرت فيه أنّ المبلغ المالي الذي أصبح في عهدة الزوجة بات من أدلة الجريمة وطلبت مصادرته. وهي لم تطلب اعادته الى المصرف، عكس اللغط الذي أثير".

جرم استيفاء الحق بالذات

ويتوقع رعد من النيابة العامة، "كجزء من منظومة الفساد السياسي المالي المصرفي القضائي، ستحاول التشدد في ادعائها قدر الإمكان، وقد تعتبره سطواً مسلحاً او تهديداً بالقتل أو إيقاع الأذى".
أما موقفنا كمحامين عن الساعي، فهو "إن كان هناك جرم، فهو سيكون جرم استيفاء الحق بالذات. فكل الأفعال التي حصلت تقع ضمن المواد 429 و 430، أي تنحصر في دائرة جرم استيفاء الحق بالذات، ولا تتعدى ذلك".
ويقارب رعد ما حصل في حالة الساعي عبر مثالين اثنين. والمثال الأول هو محاكاة لتهديد الساعي بأن يحرق نفسه بالبنزين، "فإذا قام شخص بسرقة ما وهدّد بغية نفيذها بالسلاح، كأن يقول لأحدهم اعطني مالك أو سأقتلك، فهذا الجرم لا يلاحق كجرم التهديد بالقتل بل بجرم السرقة المشددة عبر استعمال السلاح". وبالتالي فالسلاح هنا هو من أدوات الجرم وليس الجرم بذاته.
أما إذا تعرض أحد لسرقة دراجته وعرف مكانها وقرّر أن يذهب بنفسه لإحضارها وتواجه مع السارق وضربه، فهنا لا يتم الإدعاء عليه بالضرب أو بالعنف بل بجرم استيفاء حق بالذات مع استعمال العنف، والذي قد تصل عقوبته كحد أقصى إلى 6 اشهر سجن".
وفي حالة الساعي فإن استيفاء الحق بالذات، قد يكون مشدداً أو غير مشدد، ويعود هذا لمجريات ما حدث في المصرف وهو أمر رهن التحقيق، يوضح رعد.
في مقابل جرم استيفاء الحق بالذات، يتحدث رعد عن العذر المُحلّ، والذي ينفي الجرم وهو "حالة الضرورة". كما هناك عذر محل آخر في حالة الساعي، وهو "الدفاع عن النفس"، فكلنا اليوم "نتعرض بشكل جماعي لجريمة كبرى بسبب المصارف ومنظومة الفساد ومصرف لبنان وحجز وسرقة الودائع".
وفي أسوأ الحالات بالرأي القانوني الدفاعي، فالجرم المرتكب لا يتعدى استيفاء الحق بالذات، أما في حال أرادت النيابة العامة تغيير توصيف الجرم واعتباره سطواً مسلحاً لتجعل الساعي عبرة لغيره من المودعين، "فحينها سيواجه هذا بالقانون عبر اجراءاتنا القانونية وكذلك بالشارع"، يؤكد رعد.

المنظومة... المرعوبة

فحادثة عبد الله هي سابقة باتت بمثابة "رمز"، وبالتالي "هناك رعب لدى المنظومة التي تشكل المصارف أحد أركانها، ومن هنا نتوقع كمحامين التشدد بالحكم كي لا يجرؤ أحد حتى على التفكير بتكرار حادثة عبد الله".
وهنا يلفت إلى الهجوم المضاد الذي سرعان ما حركته المنظومة، "فحتى بعض المحامين كالمحسوبين على الأحزاب، ومن بينهم مناصر التيار الوطني الحر وديع عقل جرم، وعضو مجلس نقابة المحامين ألكسندر نجار، بدؤوا بالتهجم على الساعي واعتبار ما فعله جرماً، بحجة "إثارة الرعب لدى موظفي المصرف".

الشرارة الفرصة... "إذا ما كبرت ما بتصغر"

ونسأل رعد عما اذا كانت هذه الحادثة فرصة أمام المودعين للضغط بغية معالجة اقتصادية مالية متحيزة لحقوقهم وليس لمصلحة المصارف على حسابهم، ليشدد على أنها " قد تؤدي لذلك إذا كانت شرارة لضغط أكبر، وليس إذا بقيت حادثة منفردة". سيما إذا ما "انقضت عليها السلطة لثني أي ذي صاحب وديعة، عن المطالبة بحقه".

والضغط باتجاه قضية المودعين وتحصيل حقوقهم، يكون باستمرار" الدعم للساعي ليس للشخص بل لما يمثل وللقضية التي يمثلها".
في السياق يلفت رعد إلى انه "نحن لا نحرض الرأي العام على القيام بالمثل، لكننا نلفت إلى أن دعم القضية لما تمثل قد يؤدي للضغط لايجاد حلول لمصلحة المودعين وحقوقهم".

والد الساعي: مش مشكلتنا... مشكلة السلطة

وفي حديث مع والد الساعي، علي الساعي، نسأله فيه عن حالته النفسية والجسدية، يؤكد لموقعنا أنه "لم أقابل ولدي حتى الساعة ولا نعرف شيئا لا عن حالته الجسدية ولا النفسية".

و"الزلمي فات عالبنك عم بيطالب بيحقه... عم بيطالب بمصرياته.. ما فات لا يسرق ولا ينهب" يقول الساعي، الذي يلوم "بعض وسائل الإعلام"، سائلا إياها "هل ط قمتم بعملكم الصحافي كما يجب وسألتهم إدارة المصرف ما إذا كان ابني أخذ شيئا ليس من حقه للتهجم عليه إعلامياً؟".

وعن خوف السلطة من تكرار هذه الحادثة، يرد الساعي بالقول "مش مشكلتنا هيدي لأنو هني يللي كانوا الأساس... هني يللي جبروا العالم تعمل هيك لتاخد حقا".

ويسأل "هل قبل الأزمة المصرفية سجلت حادثة كهذه؟ هل تجمعت الطوابير عند المصارف قبلها وحصلت إشكالات عديدة؟ بالطبع لا لكن من تسبب بالأزمة وحجز ودائع الناس هو من تسبب اليوم بسخطها ومحاولتها استرداد ودائعها بعد فقدان الأمل بذلك بالسبل المصرفية المعتادة".

دولة القانون... شريعة الغاب

وتعرضت دول عدة لأزمات اقتصادية كبرى، لكن اجراءات الإنقاذ نظمت عملية استرداد المودعين لودائعهم. فيما إقرار الكابيتال كونترول المنظم في كل من اليونان وقبرص، انعكس إيجاباً على الاقتصاد وفق دراسة للـ"يورو بنك". أما في لبنان فهرّب المحظيون من كبار السياسيين والمودعين أموالهم، "تحت عينك يا دولة"، ووقع بقية المودعين تحت رحمة استنسابية المصارف بالكابيتال كونترول، وهيركات وصل لتذويب 80% من قيمة الوديعة، ووعود سياسية باسترداد الودائع في المستقبل البعيد، فيما لا حلول إنقاذية على الأرض!

ويذكّر ما فعله الساعي بالمسلسل الإسباني الشهير la casa de papel والذي سطى فيه "البروفيسور" مع فريقه على بنك اسبانيا وحظي بتأييد شعبي واسع، بعد اعتباره "مقاومة" رافضة للسياسات المالية المصرفية المتبعة في البلاد.

وفي ذلك المسلسل يتبين أخيراً أنّ القضية لا تعدو كونها حلم رجل ذكي بسرقة احتياطي الذهب في مصرف مركزي، رجل أخذ الناس "رهائن" كجزء من "خطته". أما في لبنان، فيؤخذ مليون مودع "رهينة" خطة اقتصادية هي نفسها "رهينة" مفاوضات الدولة اللبنانية مع صندوق النقد.

وحرم المودعون بالفعل من الاستحصال على وديعتهم بالطريقة وبالقيمة التي أودعوها فيها. فباتت ودائعهم "رهائن" في مصارف. ومن الجدير هنا التذكير بأنّه وفق المادة 307 من قانون التجارة، "إنَّ المصرف الذي يتلقى على سبيل الوديعة (مبلغاً من النقود) يُصبِح (مالكاً له) ويجب عليه أن (يردَّه بقيمة تعادله)…". فهل يقارن جرم استيفاء الحق بالذات الذي قام به الساعب، بجرم خيانة المصرف للمال الذي اؤتمن عليه؟
ومع هذا، يرى بعض اللبنانيين أنه لا ضير بانتظار حلول المنظومة التي تسببت سياساتها وسرقاتها بحجز اموالهم وانهيار الليرة. وليس كل شخص مستعد ربما لفعل ما قام به الساعي، لكنها فرصة جدية مؤاتية للضغط كي لا تذهب مساعي الساعي سدى... ويستحيل الأمل يأساً من جديد، ويضيع الحق، باستسلام أصحابه!

بحث

الأكثر قراءة