مرفأ بيروت والعدالة المُنتظرة على وقع أجراس الاستغاثة!

التحري | | Monday, July 5, 2021 11:44:06 AM


فتات عياد - التحري

كان عام 2019 حزيناً على قلوب الباريسيين، مع احتراق جزء من كنيسة نوتردام الفرنسية التي يرجع تاريخها إلى 800 عام للوراء. في حين أن عام 2020 كان الأسوأ على قلوب اللبنانيين مع انفجار مرفأ بيروت، بعد وقوع أكثر من 200 ضحية، وتشريد 200 الف عائلة وتدمير ثلث المدينة...

وباريس الحزينة طوت جرحها مع إعادة ترميم كنيستها التاريخية، لكن جرح بلاد الأرز ما زال ينزف فيما العدالة لبيروت وأهالي الضحايا، بقيت، أقله حتى الساعة، غائبة!
وبين مأساة مدينتين، أوجه شبه تتخطى المكان والزمان... اجتمعت برواية "نوتردام دو باريس" التي صدرت عام 1831، والتي تناولت حقبة اجتماعية فرنسية ماضية، وترجمت إلى "أحدب نوتردام"، ولاقت رواجاً لا مثيل له بعد حريق الكنيسة.

و"عندما تتحدث إلى امرأة فانصت الى ما تقوله عيناها"، يقول كاتب الرواية فيكتور هيغو. هو الذي جعلنا ننصت إلى ما يقوله قلب أحدب نوتردام، "كوازيمودو" الأصم، ونرى بعينيه، حبه للغجرية إزميرالدا "ساحرة" القلوب، والمتهمة بـ"السحر".

هذه الشخصية الخيالية التي تناولتها أعمال فنية ورسوم متحركة ولم تغفلها ديزني، جعلتنا من تصرفات كوازيمودو نستنبط جماله الروحي وشر الساخرين منه، لا بل ونخجل من أنفسنا مع كل حكم نطلقه على كل ما هو "ظاهر" من الناس، متجاهلين كل ما هو خفي. ليتجسد ظلم مجتمع بأسره، بـ"كوازيمودو"، الضحية المنبوذة لقباحة مظهره، ويبدو قارع أجراء كاتدرائية نوتردام، كمن يقرع على آذاننا صوت العدالة المعذبة وسط حرائق النفس البشرية.

فكوازيمودو لازم الكاتدرائية، أو "سُجن" فيها بإرادة من رئيس الشمامسة، القس كلود فرولو، وذلك منذ أن وضع مشرداً على باب الكنيسة، تفادياً لسجن أكبر لم يَسلم منه، ألا وهو أذى الآخرين في الخارج! "والواقع أن كوازيمودو، الأعور، الأحدب، كان شيئا قريبا من الإنسان ولكنه ليس إنسانا أبدا". ولم يشفع له تفانيه بقرع الأجراس، مع "قبحه" الخارجي، وظلت السخرية بحقه، سيدة الموقف!

والمفارقة أن رواية هيغو توقعت حصول حريق الكاتدرائية. بينما قال نزار قباني في بيروت "لأنا أحرقناكِ وابكيناكِ وأهديناكِ أيا بيروت معاصينا". والبعض إذ يرى أن مظلومية كوازيمودو وإزمرلدا التي أُعدمت ظلماً، أصابت الكاتدرائية بلعنة، فإن "لعنة" لبنان قد تتجسد بظلم سياسييه له، وبإعادة انتاجهم من قبل الشعب، على مدى 30 عاماً من الحكم!

اللعنة!

وليست اللعنة وحدها التي تجمع بين المدينتين، فربما جمعهما حب إزمرالدا وكوازيمودو. ويا لها من صدفة أن تلعب اللبنانية هبة طوجي دور الغجرية في مسرحية راقصة مقتبسة عن الرواية، بعدما لعبته الفرنسية هيلين سيجارا.

ولعل عينا إزمرلدا قالت الكثير عندما نطقتا بالحب، فأوحت للكاتب برواية خلدها التاريخ، والرواية التي اختصرها البعض بالجمال الإنساني مقابل شرور البشرية... تتفرع منها إسقاطات ليست تنتهي، تماماً كصراع الخير والشر، والطاعة والتمرد، والعطاء...

وهنا، لا بد من التوقف عند المسرحية الغنائية، مع غارو بدور "كوازيمودو"، وهيلين سيغارا بدور "إزميرالدا" وباتريك فيوري بدور "فيبس" ودانيال لافوي بدور فرولو، وتحديداً عند اللوحة الغنائية بعنوان Belle ، أو جميلة، إذ لا بد من النظر لمظلومية كوازيمودو، وبراءة إزمرالدا وسحرها الفطري، وفساد القس الذي أوى كوازيمودو وأخضعه لطاعته وأجبره على البقاء في الكنيسة، ولازدواجية فيبس، حبيب "fleur de lys"، الذي يريد قطف "وردة ازمرالدا"، كما تقول الأغنية!

وقد يشفق البعض على ازمرالدا أو يغار منها، هي التي يتصارع 3 اشخاص عليها، "ابنة الشارع" التي لا تعرف اصلها ولا فصلها، هي "هجينة" و"ساحرة" في آن. وكذلك لبنان الوطن، الجميل على الرغم من عيوبه، الحائر بهويته، رغم تعدد هوياته!

وبعين عطشى للعدالة او ربما للانسانية. تصلح هذه اللوحة الفنية لأي زمان ومكان، سيما لبنان، فالناس هم الناس بخيرهم وشرهم، بحبهم وضعفهم. والغجرية محاطة بفساد كاهن أغوى له جسدها وحررت رغباته مفاتنها وسيطر عليه سحرها.

وأغوت ثروات لبنان الوطن لسياسييه فعاثوا فيه الفساد، وأغوت كذلك للسلطات الدينية فيه، فحكمته بحجة قوانين أحوال شخصية موحدة، وتحكمت بحيوات الناس، او اقله، صعّبت الوصول لدولة المواطنة!

إذ أن فرولو استغلّ نفوذه للحصول على ازميرلالدا، لا بل حاول تقبيلها بالقوة، وعندما تمردت وأوقفته عن "اغتصابها" في حرم الكاتدرائية، كاد لها المكائد وتسبب بحكم الإعدام بحقها. وكذلك حكام لبنان الذين أخذوه الى انهيار هو الأسوأ في تاريخه، ويأخذونه عن سابق إصرار الى الإنهيار الكامل، وبعد ان اغتصبوه بالقوة وغيرها من الأساليب، يحاولون منع ثورة شعبه، ويحرقون ما تبقى منه وفق قاعدة "أنا وبعدي الطوفان".

تبدو إزمرالدا "ثروة" لبنان، بأرضه وشعبه، بجمال طبيعته وما بقي من دولته واقتصاده ومجده، فهي حريته وتنوع ثقافاته مع كل حي قدمت فيه عرضاً راقصاً. ويبدو فيبس، الفارس الشرطي الذي قرر ألا يكون وفياً لحبيبته ليحصل على ازمرالدا، ثم يترك إزمرالدا لمصيرها في السيناريو السيء والأصلي من القصة، الدول الأجنبية وتدخلاتها بلبنان.
ويبدو في السيناريو الجيد للقصة، بزواجه من إزمرالدا، البديل الذي يطرح الحل لأزمة لبنان، عبر حكم رشيد ونظام فيه الكثير من العدالة الاجتماعية.

أما "فلور دو ليس" فهي الضغينة، هي المرأة الحسودة المنافسة، هي تفوّق الأنا على المصلحة العامة لدى جزء ممن يطرحون نفسهم بديلاً للسلطة، هي المحاصصة باسم حقوق الطوائف على حساب المواطنة، هي الطائفية المقيتة. وأليست "الغيرة بتحرق الحصيرة؟" وكم من مرة أحرقت الطائفية بلادنا؟

وهو صراع السلطة ورجال الدين والتدخلات الخارجية والتغيير، فيما يبدو كوازيمودو في اللوحة نفسها مكبل الأيدي، بعد تضحياته في سبيل الحب ليس لشيء سوى العطاء وتهريب ازمرالدا من قبضة القس. والأحدب كان سجين القس لسنوات، والآن هو منبوذ، وهو العدالة والقضاء في لبنان. وهو نبذ لسببين اثنين.

-والسبب الأول هو الظلم الذي تجسد بكوازيمودو نفسه، إذ يكفي تذكّر هذه الشخصية لاسترجاع ما تحمله البشرية من وزر أحكام مسبقة على المظاهر وإغفال لطف النفس في قرارتها. شريرون نحن بإيذاء بعضنا، بنبذ كل مختلف عنا، وهذا المختلف هو الذي "أعطى" و"ضحى" دون مقابل، لـ"تحرير" ازمرالدا.
-السبب الثاني هو الخوف نفسه من إحقاق العدالة والحق، فكوازيمودو بعد أن حُكم على ازميرالدا ظلماً، خاف الناس منه لأنه سعى لتحريرها، خافوا منه لأن حُكمه العادل، يعني المحاسبة، بلا أدنى شك، المحاسبة التي تطال رؤوساً كبيرة!

وعاش الأحدب صراع الولاء والطاعة والحب لسيده، وصراع حبه الطاهر النقي لإزميرالدا، لكن خيره غلب في النهاية، فاختار المظلوم على الظالم. وانتقم من ضحكة فرولو الشريرة في لحظة شنق محبوبته!
صمت آذان كوازيمودو من قرع أجراس الكنائس. وهل يقود "الولاء" الى "الصمم"؟ وألم يحن وقت تحرير القضاء ليسمع أنين اللبنانيين وصرخاتهم في الميادين؟ وألم تقرع أجراس الإنذار جميعها بعد؟
وكوازيمودو تمتع الناس بعذاباته، فيما يسخر بعض اللبنانيين من العدالة نفسها، إذ ينكرون إمكانية تحقيقها، وربما خوفاً منها في مجتمع شعاره المخالفة. فبعضهم لم يحترم القانون يوماً، وأي دستور هذا الذي يحترمونه؟ اتفاق الطائف؟ ام اتفاق الدوحة؟ ام صيغة الـ 6 و6 مكرر؟ هذا في "النظريات"، أما في التطبيق، فهي شريعة الغاب التي لم يعرف اللبنانيون غيرها شريعة!
تأتي العدالة "مشوهة" في لبنان، هي كوازيمودو المنطوي في عزلته، وقاسية هي حقيقة الجسم القضائي اليوم، وكذلك معالم جسد الأحدب في عيون لا ترى جمال الروح وتنخدع بالمظهر. فيضيع القاضي المالح بعزا الطالح، وتضيع الحقيقة!

إزمرالدا... الأصل

أما لبنان "الثروة" المغرية التي تجسدت بفتاة الـ 16 عاماً، التي حرر الرقص جسمها من أي قيد، التي ذاقت الفقر فتاقت لحب الحياة، والتي أسقت كوازيمودو الماء لتنجه من الموت، ربما لإدراكها بحاجتها له، فكذلك فعل اللبنانيون بعد ثورة رفعوا فيها شعار استقلالية القضاء والمحاسبة.
وتبدو ازمرالدا غير ناضجة بعد، و"بالغة الضعف"، فهي خافت في البداية من تقاسيم وجه الأحدب. لكنها وعلى عكس بقية الناس "أسرعت لإنجاد مثل هذا البؤس العظيم والبشاعة الكبيرة. لقد كان مشهدًا نبيلاً فوق وتد التعذيب". و"هو يتأمل هذا الجمال الرائع، وأما هي فتنظر إلى هذا القبح الفظيع، وكانت تكتشف في كل برهة جزءًا جديدًا من قبحه. ومع ذلك فقد كان في هذه الكتلة من القبح، قدر كبير من الحزن والألم بحيث أنها بدأت تعتاد النظر إليها وتألف مجاورتها".
اتُهمت ازمرالدا زورا بمحاولة قتل حبيبها فيبوس، والحكم عليها كان بسبب عدم حصول فرولو عليها بالقوة، فتهمها بالسحر. وهل للبنان سبب في مظلوميته سوى لسحره؟ وألا تتصارع الدول وتتحارب على أرضه؟ ألا تتصارع عليه السلطة لاحتياطي ذهب لم يسرق بعد، ونفط لم ينقب عنه؟ أليس منطقة حساسة في قلب الشرق الاوسط، ذات بعد جيوسياسي مهم؟ ألا يؤثر استقراره على جواره ومحيطه، ويمر به خط الحرير الصيني؟ هو جسد إزمرالدا الذي أيقظ الرغبة في عيون تنهش بالروح قبل الجسد. وها هي أرواح اللبنانيين "منهكة"، تماما كأرضه!

جميلة و"المجنون"... جسد وروح لا يلتقيان!

تبدأ المسرحية من محطة محورية في القصة، هي تنظيم عملية انتخاب "سيد المجانين"، وبعد أن "عجزت مخيلة المرشَّحين عن بلوغ بشاعة الوجه النموذجيَّة" برز متسابق أدهش الحاضرين.
وقد تمثَّل سبب الدهشة بكوازيمودو في:
-الأنف الصلب الطويل. كالتوظيفات العشوائية والمحسوبيات والزبائية، التي مهدت لأياد امتدت إلى المال العام.
-والفم الذي يشبه حدوة الحصان، ربما يشبه مؤسسات الدولة "المنكوبة"، كمؤسسة كهرباء لبنان ودين الـ45 مليار دولار.
-وتلك العين اليسرى الصغيرة التي يسدها حاجب أصهب أشعث، كالرشوة التي تسد اي إمكانية للنزاهة والشفافية.
- والعين اليمنى المختفية اختفاء كاملاً وراء ورم شديد الضخامة، كالقضاء وما حل به من اورام جراء صراعات انحلال الدولة.
-والأسنان المنخورة المتكسرة المفلولة والمنتشرة هنا وهناك في فوضى ظاهرة، مع طوابير الذل على البنزين، وفوضى السلاح المتفلت..
-وهاتيك الشفة الجاسية على علتها سن من أسنان الفم فبرزت إلى الخارج كأنها ناب فيل، علها تكون الحدود السائبة...

أكثر من ذلك، "لقد كانت التكشيرة هي وجهه". بتعبير آخر، كان شخصه كله تكشيرة. كان الفساد وكانت الطائفية، هو لبنان كشرت فيه السلطة عن أنيابها بانفجار مرفأ. هو ثالث اكبر انفجار في العالم، هو جريمة بحق الانسانية. تضاف إليها ثالث أكبر أزمة اقتصادية منذ زمن!
لبنان، هو سيد المجانين بعينه، كيف لا وهو في ذروة موسمه السياحي، مع سهر الليل وطوابير ذل النهار؟ إنه الجنون بذاته، إنه بيروت ثالث أغلى دولة في العالم، مع شعب يعيش بشروط اقل حتى من دول العالم الثالث!
لكن مهلاً، أليس لبنان الجميل هو إزمرلدا؟ وأليس لبنان بقبحه وجنونه وخلاصه، هو كوازيمودو محرراً لا سجيناً؟
هل تتوق العدالة في لبنان فعلاً لإنقاذنا؟ هل مستعدة هي أن "تُرمى بحجر" لأجلنا إن عصت أوامر أسيادها؟ ثم أليست تحكم باسم الشعب؟ تماماً كما يدق قلب كوازيدمودو لأجل إزميرالدا؟
لكن في لبنان تبدو العدالة نفسها الضحية، هي التي تعرضت للظلم بسبب سياسات التدخل بالقضاء والارتهان القضائي، من هنا هل يعقل أن تثور العدالة المظلومة وتثأثر لنفسها؟
واليوم هناك وقفة أمام قصر العدل لدعم القضاء في قضية انفجار المرفأ، وكذلك يستمر اضراب المحامين للحث على إقرار قانون استقلالية القضاء، فهل تكون هذه حوافز لإشعال الرغبة في عدالة مسجونة؟
احب الأحدب إزميرالدا، فيما رغبة الآخرين بها كانت قاتلة. فإزميرالدا الأرض والشعب، هي الجمال بعينه الذي لا يكتمل دونما عدالة تحصّنه. وبرأي المحلل النفسي ثيودور رايك، فسيكولوجياً "ليس الحب متأصلاً في الحوافز الجنسية، وإنما هو نتاج لتطور الفرد وللرغبة برقي الذات واكتمالها".

ويحتاج لبنان للتطور في سبيل اكتماله كدولة، وإزميرالدا إن أعطت الماء لكوازيمودو لتنقذ القضاء من الموت وتوقف عنه حكم جلده، فها هي تساق إلى حبل المشنقة اليوم، وكرولو يضحك، وكوازيمودو يقف في الأعلى، فهل يفعلها قبل لحظة الموت مخلصاَ حبيبته؟ هو الذي اقتص لإزميرالدا بعد مماتها في الرواية؟ مسكينان إذا لم يتحدا، العدالة ولبنان، قبل فوات الأوان!

بحث

الأكثر قراءة