"التاريخ يعيد نفسه"... أطفال لبنان يتلقون "درساً" لن ينسوه و"لعبة الدم" مفروضة عليهم!

التحري | فتات عياد | Friday, October 15, 2021 6:48:29 PM
فتات عياد


فتات عياد - التحري

"ليس الإحباط قدراً" عبارة قالها سمير قصير يوماً، هو الجسد الذي طالته يد الإجرام فاغتالته، وهو القلم المتمرد الذي كان عصياً على القتل، حدّ مدّ كلماته -حتى بعد وفاته-للبنانيين الثائرين بالأمل. ولو كان قصير معنا اليوم، ربما كان ليقول "نحنا الثورة الشعبية وهني الحرب الأهلية" قبل يومين فقط من ذكرى 17 تشرين، الثورة التي وحّدت اللبنانيين ضد منظومة كشّرت عن أنيابها أمس عند تخوم خط تماس الحرب الأهلية الشياح-عين الرمانة، وأعادت تشغيل "لعبة الدم" التي كلما أفلست، لجأت إليها!

والمنظومة في حالة إفلاس سياسي غير مسبوق اليوم، فحتى في الحرب الاهلية التي اقتتلت فيها على مدى خمسة عشرة عاماً، كان اللبنانيون يعيشون في بحبوحة مالية مقارنة بالفقر المدقع الذي يعانونه اليوم. وأمام إفلاسها المدوي، وأمام غياب مقومات الحياة من كهرباء وماء وعلم وطبابة، لا ضير باسترجاع "لعبة الدم" لإلهاء اللبنانيين عن فشل المنظومة، وجعلهم في حالة مبارزة ضد بعضهم البعض، عوض مبارزتها، فإشراكهم في لعبة دموية يجعل هدفهم الوحيد هو تصفية بعضهم البعض، عوض التصفية السياسية لمنظومة سرقت أموالهم وفجّرت مدينتهم وساهمت في تهجيرهم، وقضت على أحلامهم في وطن!

التاريخ يعيد نفسه!

"التاريخ يعيد نفسه" هي العبارة الأصحّ لتوصيف أحداث الأمس الناجمة عن تظاهرة حشد لها كل من حزب الله وحركة أمل وتيار المردة عند قصر العدل في بيروت تنديداً بالقاضي طارق البيطار وطمساً للعدالة في جريمة انفجار مرفأ بيروت. كل ظروف الحرب متوفرة، نفوس مشحونة، جماعات حزبية اعتادت الاستقواء بسلاح غير شرعي كقوى أمر واقع، تعتدي على أناس عزّل في محالهم وأمكنة سكنهم،"قناص" مجهول الهوية معروف الأهداف، وأسلحة "خفيفة" و"ثقيلة" بين يدي متظاهرين وصفوا بالـ"مسالمين"! وجيش يتأخر في الحسم... والنتيجة: دماء المقاتلين تسقط أرضاً، وكذلك دماء الضحية مريم فرحات التي لم يسألها أحد المشاركة في "اللعبة"!

والحرب قوامها المقاتلون، وفحواها القتل، ونتيجتها الدمار. ومع هذا، يسهل إشعالها لكن يصعب إحصاء ضحاياها. والتاريخ لا يعيد نفسه إلا عندما يعيد الناس أفعالهم، فيعيدون إنتاج أفكارهم وسلوكياتهم وأخطائهم، ولا يتعلمون "من كيسهم". أما أطفال عين الرمانة والشياح، الذين فرّقت المتاريس -جغرافياً اقله- أهلهم و-جمعتهم- في ممرات مدارسهم يختبئون من ساحة القتال، فتعلموا أمس درساً لن ينسوه في حياتهم، وهو الخوف من "بعبع" لم يروه ولا يعرفونه، لكنهم سمعوا صوته يزأر في آذانهم، فصَمّوا آذانهم علّ مخالب البعبع لا تخدش الطفولة، في وطن سرقت فيه الطفولة وسرق فيه المستقبل، وباتت الحياة فيه "تاريخ يعيد نفسه"!

الثورة... لم تكن "لعبة"!

وإذا كان الأطفال الهاربون في حمى الجيش أعادوا إلى أذهان أهاليهم مشاهد الحرب التي لم ينسوها قط، كأنّ قدر أطفال لبنان مشاهدة "لعبة الدم" التي يلعبها كباره، فإن ما فعلته ثورة تشرين عام 2019 من توحيد للبنانيين الثائرين على المنظومة من مختلف المناطق والمذاهب والطوائف، وما فعلته بالمعنى السياسي بدءاً من اسقاط حكومة سعد الحريري الى طرد النواب "كلن يعني كلن" من الاماكن العامة، إلى الفوز في النقابات والجامعات وآخرها اكتساح المعارضة لانتخابات الجامعة الأميركية... كان مشروعاً "جدياً" لبناء الدولة لو قُدّرت له الحياة، ولم تكن إرادة مئات آلاف المعتصمين في ساحات الثورة "لعبة"!

لكن الإرادة الجدية في بناء وطن اسمه لبنان، عنوانه المواطنة لا الانتماءات الحزبية الضيقة، ومحوره السيادة لا حرب المحاور على أرضه، ومضمونه قضاء مستقل ودولة قوية لصالح شعبها، لا قوية بتقاسم ثروات شعبها... كلما أمور سقطت عند تقاتل -بضعة اشخاص- في ساحة حرب في الطيونة، ليظهر جلياً أن نبذ اللبنانيين للأحزاب والاعتصام ضدهم في الشارع، لا يمنعون ثقافة الموت من اختطاف البلاد بأسرها -في ساعات معدودة- طالما أن مناصري الأحزاب في لبنان مستعدون للقتال والموت، دفاعاً عن زعمائهم، لا عن الوطن!

انفجار 4 آب... ضمائر منوّمة!

وظن جماهير الثورة بعد انفجار 4 آب أن شيئاً لن يشفع للمنظومة الحاكمة، وظنّت هذه الجماهير أنّ استشراس حزب الله في الهجوم على المحقق العدلي كاف لإدانته وتعريته لدى جماهيره، هو الخائف من تحقق العدالة، لكن غسل الأدمغة سار بلا توقف، وكذلك غسل الضمائر من مكنوناتها!
ولأن "العلم في الصغر كالنقش في الحجر"، لا عجب أن الاطفال الذين يشيعون آباءهم اليوم يُطلب منهم التعهد بـ"الشهادة" بمعنى دخول آتون اللعبة الدموية، على خطى أهلهم من مقاتلي حزب الله، ليصبح أول "درس" يتعلمونه هو فداء الزعيم باسم الدين، وهو فداء الحزب باسم السير على خطى الوالدين، في استمرار ممنهج للعبة الدماء نفسها.

و"القمصان السود" الذين اشتهر بهم حزب الله، وهم شبان مبرمجون اشتهروا بارتداء قمصان سوداء، كالقطعان يتحركون دفاعاً عن حزبهم الذي يستدعيهم كلما اراد الحسم في الشارع لتحقيق مكاسب سياسية، يوجد منهم قمصان على قياس جميع الأحزاب اللبنانية، وهم يجيدون "لعبة الدم" بل ويحبونها، ربما لأنهم في صغرهم لم يحاطوا بألعاب أكثر "جدية"، وأقل "دموية"!

وهي لعبة فرضت عليهم في الصغر، فهم لم يبكوا الليالي للحصول عليها ولا جمعوا المال لاقتنائها، بل قيل لهم أنها عمل "جدي" يقصد منه الدفاع عن الكرامة والقضية، ولا يهم ما هي القضية، فالحزب يوجه سلاحه كيف يشاء وأين يشاء، والقضية تتغير وفق الأجندة الإيرانية، لكن ما يبرر لهؤلاء في الصغر، لا يبرر لهم في الكبر، فالسلاح البلاستيكي بين يدي طفل قد يغذي فيه العنف ولو بطريقة لا واعية، لكن السلاح بين يدي راشد مسؤول عن أعماله، ينتج القتل، وعن سابق تصميم وتصور!

وبين أطفال لبنان الذين تعلموا الخوف من بعبع لم يروه، وأطفاله الذين تعلموا اقتناء لعبة الدم كأهلهم، كبار تعلموا الهجرة كأسلافهم، وها هو التهجير الجماعي قدر اللبنانيين مجدداً، في وطن ما عاد على قدر طموحات ابنائه، وذرفت الدماء فيه وتفجرت المدينة، ومنع التحقيق ومنعت العدالة، ولا أموال فيه لشراء لعبة، فيما اللعبة الوحيدة المتاحة، هي لعبة الدم، ويا لها من لعبة تكتب بالدماء مستقبل أبنائنا!

بحث

الأكثر قراءة