عسكري في الجيش يروي مأساته لـ"التحري": "تقاسمنا بيضة عالعشا أنا ومرتي" و"سنين الخدمة مين بيعوّضها"؟

التحري | فتات عياد | Monday, January 17, 2022 11:08:24 PM
فتات عياد


"هل ما زالت للبنانيين قدرة على التعاطف مع مآسي بعضهم بعضاً"؟ جملة كررتها على نفسي مراراً قبل التجرؤ على كتابة سطور هذا المقال، بعدما تحول كل منزل في لبنان إلى مأساة بشكل أو بآخر، وبعدما طمرتنا الهموم والأزمات، وبتنا بالكاد، مع أنفسنا نتعاطف!

"هل ما زالت لدى اللبنانيين القدرة على استيعاب حجم المأساة دونما تقليل من شأن الأذى الذي تسببه لصاحبها؟"، جملة طرحتها كذلك على نفسي احتراما لعسكري لبناني قرر رفع الصوت عبر التحري، للحديث عن معاناته ومعاناة العسكريين جميعاً، في بلد بات راتب العسكري فيه لا يتجاوز 60 دولاراً، ويطلب منه حماية الأمن والاستقرار كآخر المؤسسات "الصامدة" في لبنان والتي تبقيه "صامداً"!

"هل ما زال لدى اللبنانيين شيء من العدالة التي ما حصلوا عليها يوماً، على قاعدة "فاقد الشيء يعطيه" لينصفوا مظلوماً بمعزل عن مهنته؟" جملة راودتني، وليعذرني العسكري الذي شكى إليّ نوم أطفاله جياعاً ونسيانهم شعور الدفئ، فالسلطة أمعنت في بث الكره في قلوب اللبنانيين المنتفضين بالعسكر منذ ثورة 17 تشرين. بعدما وضعتهم في وجه بعضهم لحماية نفسها، فوضعت مظلوماً بوجه مظلوم لتبقي على ظلمها. وباتت السخرية من راتب العسكري سيدة الموقف!
ووضعت من هو مؤتمن على حماية المؤسسات، بوجه ثائر ضد من يديرون المؤسسات. معادلة صعبة وجارحة، لكنها لا تُسقط معادلة مساواة الناس بحقوقهم، والعسكري ككل لبناني، حقه بالطبابة والتعليم والمسكن مقدس، ومأساته أيضاً "مأساة"...

التعاطف كصفة بشرية

وبعيداً عن مبدأ الحق الذي يعلو ولا يعلى عليه، صورة فرضت نفسها على ذهني، لعسكري أدمعت عيناه في مواجهة ثوار منتفضين، دمعة تجاوز فيها مهنته وأمر قيادته، وتحول فيها إنساناً متعاطفاً مع معاناة، فألا يستحق إنسان التعاطف، ولو كان "عسكرياً" في لبنان؟!
والرأفة والتعاطف صفات تبقينا "بشراً" لا حجراً، ولعلّ هذا ما عوّل عليه العسكري عندما سقطت قدسية حقه بالمأكل والملبس والمسكن في بلاد الذل، لبنان، ليخرق قاعدة الصمت العسكرية، ويعول على قاعدة الإنسانية، بعدما فقد الأمل بأن يستمع لقصته أحد من سياسيي لبنان أحد!

شو بطعمي ولادي؟

وبصوت يرتجف قهراً عبر الهاتف، يقول العسكري "ما بدي تِنعَرف هويتي... بنأذى"، وابن إحدى البلدات العكارية، والذي يخدم منذ حوالي 12 سنة في الجيش، يسأل "كيف بطعمي ولادي؟".. ويضيف "روحوا ع بيتي فتحوا البراد... بتحداكن تلاقوا لقمة أكل بقلبه".

وهو سؤال مشروع لموظف يتقاضى بدل أتعاب وظيفة مليوناً و700 ألف ليرة، مع دولار للسوق السوداء تجاوز الـ32 ألف ليرة، وباتت علبة حليب ابنه، وباتت حفاظاته، عبئاً على العائلة، وبات الطعام "نادراً"، وغابت "التدفئة"!
وبحرقة، يقول "صرنا نشتهي البيض إشتها متل اللحمة اللي نسينا شكلا"، ويروي قصة آخر عشاء مع زوجته قبل أن يرسلها منذ أسبوعين لمنزل أهلها لتنعم بظروف عيش "أفضل نسبياً"، إذ أنه "بـ10 آلاف ليرة اشتريت 3 بيضات على العشاء، وأكل ابني الكبير بيضة وابني الصغير بيضة"، فيما "تقاسمنا أنا وزوجتي بيضة لنسد جوعنا".
وفي منطقة بالغة البرودة، لم تستطع العائلة المكوث دون إشعال الصوبيا نظرا لكلفة إشعالها، فما كان من الزوجة وأولادها إلا أن افترقوا عن الزوج، وها هم اليوم في منزل أهلها، علّهم ينعمون بقليل من "التدفئة".

"لا يبقى لي 1000 ليرة من المعاش ومع هذا عليّ تدبر أمري والوصول لمركز الخدمة"، يقول العسكري، مضيفا "نقوم بدورات تدريبية في الجيش وطعامهم لم يعد بالكميات وبالمستوى نفسه ومع هذا نأكله"، لكننا ورغم إرهاقنا بعد يوم تدريبي وحركة جسدية متعبة، نعود لمنازلنا ولا قدرة لدينا على شراء منقوشة، جازماً أنّ "هذا الحال لا ينطبق عليّ وحدي، لا بل أن جميع زملائي في الجيش، الذين أعرفهم على الأقل، يعيشون ظروف عيش قاسية".
ويزداد الوضع سوءاً، مع "لجوئي للجمعيات في بلدتي، علّها تؤمن لعائلتي ربطة خبز يومياً"، لألقى الرفض لأنني "موظف" بنظرها. ويعلق بالقول "نحن غير مرئيين بالنسبة لهذه الجمعيات، وغير مرئية معاناتنا".

"مين بيعوضلي 12 سنة خدمة، ينكبوا ضيعان؟". يقول، هو الذي لا يقوى على التسرب من الجيش الذي "لن نتركه للميليشيات تحتله"، هو الذي يخشى أن "يفاوضوا صندوق النقد على حساب حقوقنا وتصريف بعضنا فتذهب من عمري سنوات الخدمة، وهو الذي يعرف أن معاناته لن يكترث بها مسؤول "فهم لا يستفيدون من اصواتنا كوننا لا يحق لنا الانتخاب، على عكس موظفي الدولة الذين وعدوهم بزيادة على الراتب". مضيفاً "ليس لنا الا قائد الجيش... الله يعينو".
والعسكري الذي عجز عن تأمين دواء لابنه وانتظر علّه يشفى دون دواء "لأننا الطبابة في الجيش لم تؤمنه"، يأخذ أدوية مهدئة للأعصاب، وهي أيضا "مكلفة".
ويتألف الجيش اللبناني من حوالي 71 ألف جندي، لكل منهم قصته، ومساعدة عنصر لا تمحو معاناة عنصر آخر، فكيف تمنع رجفة الشعور بالإهانة في صوت رجل أرخى الذل بظلاله على معدته الفارغة الا من ألم أدوية الأعصاب التي يحاول فيها إدارة حزنه؟ حزن كيفما أدرته لا يسد جوع طفل حرم بالغصب رضاعة أمه لأنه "نشف الحليب بجسما من سوء التغذية"، وحزن لا يمد عائلة بالدفء، وهو بطبيعة الحال يحبط معنويات عسكري، معنوياته في مهماته العسكرية، وحبه لوطنه، سرّ قوته!

ومن "مين قدّكن إنتو... ضحكوا بعبكن" إلى "المعتّر... علقان لا فيه يستقيل ولا قادر يهرب"، فإن تضاد العبارتين كفيل بتوصيف ما آل إليه حال "موظفي الدولة" في مؤسسة الجيش اللبناني. فالدعم الدولي الذي يبقي على هذه المؤسسة صامدة، لا يشمل رواتب العسكريين التي باتت بالكاد تكفيهم "أجار الطريق" للوصول إلى الخدمة، فيما يعول عليهم ضبط الأمن والاستقرار في بلاد ينافسهم فيها سلاح غير شرعي، وانفجارها الاجتماعي بات أقرب إليهم من حبل الوريد...

بحث

الأكثر قراءة