"الخيانة العظمى"... و"الشعب العظيم"!

التحري | فتات عياد | Monday, June 6, 2022 7:52:40 PM
فتات عياد


في مثل هذا اليوم عام 1982، كانت الدبابات الإسرائيلية تجتاح العاصمة بيروت وتنتقص من سيادة الأرض وتعتدي على كرامة الشعب، على مرأى من المجتمع الدولي برمته.
اليوم، وبعد 40 عاماً من التاريخ المشؤوم، ترسو الحفارة المنقبة عن الغاز في حقل كاريش التابعة لشركة إنيرجيان اليونانية في البحر، لتصبح جاهزة بعد حوالي 3 أشهر للحفر في حقل يمر جزء منه في المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بلبنان، وفق الخط 29 الذي يتبناه الجيش اللبناني كخط لمفاوضات الترسيم البحري، في عملية "اجتياح" اسرائيلي بحري للثروة النفطية اللبنانية التي هي ملك الأجيال الحالية والقادمة، وعلى مرأى من هذا الشعب ودولته وجيشه وسلاح حزب الله غير الشرعي، الذي يربط علّة وجوده بالتهديد الإسرائيلي للبنان، وفي لحظة تاريخية مصيرية، لبلد يعاني انهياراً اقتصادياً، ولدى "العدو" أوراق عدة يلعبها، مع طبقة سياسية لطالما -باعت وتاجرت- بأرواح ومصائر وثروات اللبنانيين!

وطيلة مدة الاجتياح الاسرائيلي للبنان، وحتى بعد تمركزه في الجنوب، كانت اسرائيل تحقق مكاسب "عسكرية" و"تكتيكية" عبر "عملاء" لها في الداخل اللبناني، ممن يحملون الجنسية اللبنانية، ويبيعون مصالح وطنهم خدمة للعدو.

والعمالة للعدو، خيانة للوطن. هي إذاً معادلة لا تحتمل أي لبس أو تحوير، ومع هذا، ولعقود، حكمت لبنان منظومة مرتهنة للخارج على حساب المصلحة الوطنية الكبرى، وظلّت تجد لها شرعية من الشعب عبر تكريسها شبكات الزبائنية التي عززت قيام "الدويلات" على حساب "الدولة" في ظل غياب شبكة للأمان الاجتماعي، أو حتى عبر سياسة الترغيب والترهيب واللعب على وتر الطائفية.
وها هي المنظومة الحاكمة بعدما أوصلت البلاد للإنهيار الاقتصادي، وتسببت بانفجار مرفأ بيروت، تشرع بارتكاب الخيانة العظمى، بدءا من رئيس الجمهورية الذي تلكأ عن توقيع تعديل المرسوم 6433 وتثبيت الخط 29. ما يعني أن ثروات لبنان النفطية، وأصول الدولة، واحتياطي لبنان من الذهب، كلها اليوم "مهددة" طالما أن في السلطة من هو جاهز لكي "يبيع"!

كلن يعني كلن

فـ"الشعب العظيم"حسبما وصفه ميشال عون يوما، يستحق "الخيانة العظمى" برأي حاكميه.
وعملياً، فإنّ "الخيانة العظمى" هي تهمة رئيس الجمهورية الذي ينكث بيمين "الحفاظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه" وفق المادة 50، فهو وفق المادة 49 "يسهر على سلامة أراضي لبنان وفقاً لأحكام الدستور"، وبما أن الرئيس ميشال عون من موقعه في الرئاسة الأولى هو المسؤول عن عقد المفاوضات، يُحمَّل اليوم المسؤولية الأولى والمباشرة في التفريط بثروة لبنان النفطية الواقعة ضمن الخطين 23 و29، وهي بحدود 1430 كلم مربعاً، بعد رفضه التوقيع على تعديل المرسوم 6433 الذي أرسلته له حكومة حسان دياب، والذي يخوّل لبنان تعديل احداثيات حدوده البحرية لدى الأمم المتحدة، ويضمن حقه بحقل كاريش الذي تستثمره اسرائيل بمليارات الدولارات.

لكن الرئيس عون ليس وحده في عملية "البيع" هذه -والتي لا يمكن التسليم باكتمال فصولها قبل حوالي شهرين، تزامنا مع التنقيب الرسمي في حقل كاريش-بل وراءه طبقة سياسية ظلّت لأشهر تضعف موقف الوفد اللبناني المفاوض، من خلال عدم تبني موقف الجيش الذي ينطلق منه للتفاوض، عبر دراسة له تتقاطع ودراسة للمكتب الهيدروغرافي البريطاني، وقانون البحار.

وكان عون صريحاً بعدم تبنيه موقف الجيش عبر اعتباره الخط 29 "متنازعا عليه"، فيما الخط 23 "لبنانيا"، علماً أنّ اسرائيل تنطلق من الخط 1 لتهضم 2290 كلم مربعا من مساحة لبنان (860 كلم مربعا هي المساحة من الخط 1 إلى الخط 23، تليه مساحة 1430 كلم مربعا هي الفارق بين الخطين 23 و 29).
من جهته، رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، يعتبر "التهاون بالحدود البحرية مسألة بسيطة"، إذ برأيه "هيدي مش حدود برّيّة، هيدي بالميّ"، أما رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط، فلطالما اعتبر الخط 29 "مزايدة"، ورفض الرئيس نبيه بري تبنيه.

كل هذه المعطيات، قد تتغير لصالح الشعب اللبناني بـ"شحطة قلم" من عون، أو من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي له كذلك صلاحية التعديل، لا بل وجبت مساءلته عن التلكؤ طيلة هذه الأشهر، والتفريط عن سابق علم ومعرفة، بثروة لبنان النفطية، علما أن المرسوم 6433 سبق أن أودع لدى الامم المتحدة -بإحداثياته الخاطئة وفق الخط 23- خلال حكومة ميقاتي عام 2011، ومع هذا، لم يبادر ميقاتي لتصحيح الخلل الذي حصل في حكومة سابقة له.
هذا وتُساءل قوى المعارضة التقليدية عن موقفها اليوم تجاه الخط 29، على صعيد مستوى ضغطها وجديته في هذا الملف، هي التي تزايد بـ "السيادة" على الأفرقاء الآخرين.

حزب الله وانتفاء "علّة الوجود"

أما حزب الله، فليس بمنأى عن الصفقة التي تحصل أمام مرأى من اللبنانيين. فهو الذي جلب حليفه عون لرئاسة الجمهورية كغطاء لسلاحه غير الشرعي.
وإذا كان تعويم عون لمصير صهره باسيل السياسي، "ثمناً" من الأثمان "المفترضة" المدفوعة في هذه صفقة حقل كاريش على حساب الشعب اللبناني، فما ثمن سكوت حزب الله أمام بيع جزء من المنطقة اللبنانية الخالصة في البحر؟
ثم كيف لحزب الله الذي يتباهى نوابه بأنهم جلبوا عون للرئاسة "بالبندقية"، أن يكون عاجزاً عن الضغط على حليفه للتوقيع على تعديل المرسوم 6433؟
أما فرضيات التدخل العسكري لحزب الله، كضرب الحفارة مثلاً، فهي خارج السيناريوهات المطروحة، طالما أن كاريش لم يعلن عنه حقلا متنازعا عليه وفق الاصول التي تجبر الشركة المنقبة وقف عملها فيه، إذ أنّ الرسالة التي وضعها لبنان في هذا الإطار، لا تسمن، ولا تغني من جوع!
وليس تصريح الشيخ نعيم قاسم حول أنّ "الحزب مستعد لاتخاذ إجراءات بما في ذلك القوة" ضد عمليات التنقيب الإسرائيلية، إلا شعبوية لن يقرشها بالمعنى السياسي، ولا حتى العسكري!
وهذا المثال ليس للقول أن للحزب حق في أخذ قرار الحرب والسلم عوضا عن الدولة على الإطلاق، بل لتظهير مفارقة أن الخيار السلمي المتاح عبر المؤسسات، وهو التوقيع على تعديل المرسوم 6433، يحمي حق لبنان بحقل كاريش، دون أية حاجة لعمل عسكري، لا من الجيش اللبناني، ولا من سلاح حزب الله الذي يحتكر "المقاومة"، ومع هذا، لم يلجأ إليه الحزب!
بمعنى آخر، شيئا فشيئا، يفقد حزب الله علّة وجوده ليس بالمعنى "المؤسساتي" وحسب، بل أيضاً بمعنى ممارساته في الحكم كغطاء للمافيا، وممارسات سلاحه ودويلته التي تقوض الدولة، وانكشاف آخر أوراق التوت وهي حجة الدفاع عن لبنان بوجه اسرائيل، فيما هو لم يضغط على حليفه لتوقيع مرسوم يحمي حدود لبنان البحرية، لا بل أنه وفقاً لمنطق -توازن القوى- يبدو حزب الله جزءاً أساسياً من "الصفقة" التي تحصل اليوم أمام مرأى من عيون اللبنانيين.

نواب التغيير يضغطون

"كنواب قوى تغيير نعرف تماماً الدور الأممي الذي يمكن للبنان أن يلعبه في الدفاع عن ثرواته ومقدراته، والمطلوب واحد: أن نتّحد، نحن اللبنانيين، حول رؤية واحدة جامعة نجزم من خلالها بشكل حاسم بحقنا الثابت بالخط 29."
هو بيان خرج به 13 نائبا تغييريا انتخبهم الشعب من رحم ثورة 17 تشرين. وبدا بيانهم اليوم من مجلس النواب، "فعل المقاومة الوحيد" بوجه التفريط بثروة لبنان النفطية من قبل المنظومة الحاكمة.
والنواب إذ وضعوا خارطة طريق، تبدأ بمطالبة السلطة التنفيذية التوقيع -خلال ساعات على تعديل المرسوم 6433- رسموا خارطة طريق كاملة لتعاملهم مع هذا الاستحقاق الوطني المصيري، بدءاً من الضغط لتعديل المرسوم، مروراً بتقديم مشروع قانون معجل مكرر لتعديله، وصولا لتشكيل لجنة تحقيق برلمانية وتقديم شكوى لدى مجلس الأمن، ودعوة اللبنانيين لوقفة في الناقورة، للضغط لتعديل المرسوم وتثبيت الخط 29.

عملاء السفارات...

عام 2005 هبّت ثورة الأرز، فاستطاعت تحرير لبنان من الوجود العسكري السوري، لكنّها لم تستطع إخراج ذهنية التبعية للخارج من عقول الساسة اللبنانيين.
لكن ثورة 17 تشرين 2019، كانت واضحة في "لفظها" للمنظومة والنظام الطائفي الذي تتقوى به، وكانت واضحة بمقاربتها "الوطنية" لأي "لبنان جديد" تريد، وكانت كذلك موحدة حول هدفها إنتاج نهج حكم جديد، يحقق المصلحة الوطنية أولاً، عبر مسؤولين وطنيين غير مرتهنين.
هذه الثورة التي وقف أمين عام حزب الله حسن نصرالله بوجهها، فقال للمتظاهرين "عهد ميشال عون ما فيكن تسقطوه"، أهدر دمها بالمعنى المعنوي عندما تهم أهلها بأنهم "عملاء سفارات"، فيما الحزب الذي يقر بأن "ماله وسلاحه من إيران" هو آخر من يوزع على اللبنانيين الثائرين تهما بالعمالة للخارج اليوم، فيما التاريخ لن يرحم، لا شعبا ولا مسؤولين.
وهي فرصة لانكشاف "عملاء السفارات" الحقيقيين، وهي فرصة أخيرة لاستنهاض "الوطنيين"، قبل أن تبيع هذه المنظومة أخضر لبنان ويابسه، ولا يبقى من بلاد الأرز، سوى "جهنم" يحكمها "شياطين"!

بحث

الأكثر قراءة