احتجاجات إيران... سماتها وسياقاتها وآفاقها

رصد | | Thursday, October 13, 2022 2:48:17 PM
العربي الجديد

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

تشهد إيران، منذ منتصف أيلول/ سبتمبر 2022، موجة احتجاجات مستمرّة في إثر مقتل الشابة الإيرانية/ الكردية مهسا أميني (22 عامًا)، وذلك بعد أن اعتقلتها شرطة الأخلاق في العاصمة طهران بتهمة انتهاكها "قواعد لبس الحجاب". وقد عمّت الاحتجاجات على مقتلها مختلف المدن الإيرانية، بما فيها العاصمة طهران، واستخدمت السلطات العنف في التعامل معها؛ ما أسفر عن مقتل العشرات وجرح المئات في مواجهات وصفها مرشد الثورة علي خامنئي، في أول تعليق متلفز له عليها، بأنها "أحداث شغب مخطط لها" ومدعومة من الخارج. وقطعت السلطات خدمة شبكة الإنترنت عن مناطق واسعة من البلاد في محاولة للتعتيم على الأحداث، كما أُجّل إطلاق العام الدراسي أيامًا؛ للحيلولة دون مشاركة طلاب المدارس والجامعات في الاحتجاجات.

تاريخ من الأعمال الاحتجاجية

يمكن التقليل من فرادة هذه الاحتجاجات، بالإشارة إلى أن إيران، منذ الثورة الدستورية التي اندلعت في عام 1906، تشهد احتجاجات واسعة كل عشرة أعوام، واستمر هذا النمط من الاحتجاجات بعد الثورة الإسلامية، حيث شهدت البلاد في عام 1988 احتجاجات واسعة على التعديلات الدستورية، وفي عام 1999 احتجاجات كبيرة للحركة الطلابية، ومن ثم جاءت الحركة الخضراء عام 2009 ردّة فعل على ما اعتبره الإصلاحيون تزويرًا للانتخابات الرئاسية التي فاز فيها المحافظ أحمدي نجاد بولاية رئاسية ثانية. وقد تحوّل بعض هذه الاحتجاجات إلى ثورة غيّرت وجه إيران. لكن وتيرة الاحتجاجات بدأت تأخذ، في السنوات الأخيرة، منحىً أشدّ تسارعًا، إذ باتت تتكرّر سنويًا وأحيانًا تتعدّد في السنة الواحدة. ومن أبرز الاحتجاجات التي شهدتها إيران في السنوات الأخيرة احتجاجات كانون الأول/ ديسمبر 2017، واحتجاجات تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، وكانت الأعنف منذ سقوط نظام الشاه عام 1979، وأسفرت، بحسب مصادر مختلفة، عن مقتل نحو 1500 شخص، وجاءت على خلفية رفع الحكومة أسعار الوقود بين %50 و200%. كما وقعت احتجاجات على مستوى مناطقي أيضًا، خلال عامَي 2020 و2021، في الأقاليم الطرفية الأكثر تهميشًا مثل إقليم الأهواز، الذي تقطنه غالبية عربية، وإقليم سيستان بلوشستان، قرب الحدود مع باكستان، حيث تنشط جماعاتٌ مسلحةٌ ضد الحكومة، وفي المناطق الكردية الواقعة غرب إيران وشمال غربها.

وفي جميع هذه الاحتجاجات الأخيرة، كانت الشعارات المرفوعة تبدأ مطلبية، ولا تلبث أن تتحوّل إلى سياسية تدعو إلى إسقاط النظام، وإطلاق الحريات، والتركيز على أوضاع البلاد الداخلية بدلًا من تبديد ثرواتها على مغامرات خارجية. في المقابل، كانت السلطات تتّبع الأساليب نفسها في مواجهتها، إذ غالبًا ما توصَف الاحتجاجات بأنها مؤامرة مدبّرة تُدار وتموَّل من الخارج، وذلك لتبرير قمعها. ويجري عادة حجب خدمة الإنترنت عن مناطق الاحتجاج، قبل أن تبدأ السلطات في استخدام العنف في عمليات القمع، منعًا لانتشار أيّ مقاطع فيديو أو صور تسهم في تأجيج المزيد منها.

سمات الاحتجاجات

تتميز الاحتجاجات الحادثة أخيرا من سابقاتها بأنها تتمحور فعليًا حول موضوع اجتماعي، جوهره التمييز ضد المرأة، كما ترتبط بموضوع تدخّل السلطة الحاكمة في الحريات الفردية والخيارات الشخصية. من هنا، مثّلت المرأة هذه المرة القوة الدافعة وراء اندلاعها واستمرارها، وباتت قضية مهسا أميني تمثل رمزًا لاضطهاد المرأة وإملاءات النظام في الشأن الديني، ومحرّكًا لغضب الإيرانيين، نساء ورجالًا، من السياسات الاجتماعية المتشددة للنظام منذ عام 1979. بهذا المعنى، باتت "معركة الحجاب" تختصر صراعًا بين مجتمعٍ يطمح إلى مزيد من الحرية والحياة الكريمة ونظامٍ يعتبر المسّ بالحجاب انتهاكًا لأحد أشدّ رموزه الأيديولوجية وضوحًا وأهمية. لذلك، اعتبر النظام أن خلع نساء الحجاب في الأماكن العامة أو حرقه أو قصّ شعورهنّ احتجاجًا على قتل مهسا أميني بمنزلة تحدٍّ لأيديولوجيا النظام، وهو أمرٌ غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الإسلامية؛ ما يفسّر العنف الشديد الذي استُخدم في مواجهة الاحتجاجات.

سياقات الاحتجاج المعقدة

تضافرت عوامل مختلفة، إلى جانب قضية أميني، ساهمت في إبقاء جذوة الاحتجاج متّقدة فترةً أطول من أيّ احتجاجاتٍ سابقة، مرتبطة بأوضاع اقتصادية متفاقمة، وشعور جزء كبير من الشباب الإيراني الذي ولد بعد الثورة بالاغتراب والتهميش وانعدام الأفق. وتفيد إحصاءات رسمية بأنّ 60% من الإيرانيين وُلدوا بعد عام 1979، وهم لم يعرفوا نظامًا آخر غير نظام الجمهورية الإسلامية، وليس لديهم أيّ تجربة مع نظام الشاه الذي ساهم آباؤهم وأجدادهم في إسقاطه نتيجة فساده واستبداده.

وأسهمت إعادة فرض العقوبات، بعد انسحاب إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، من الاتفاق النووي عام 2018 بموجب سياسة "الضغوط القصوى" التي انتهجها لدفع إيران إلى التفاوض على اتفاق جديد، في مفاقمة الأوضاع السيئة أصلًا. وتفيد بيانات مختلفة بأنّ نحو 40 مليون إيراني (ما يعادل نصف السكان تقريبًا) يعيشون اليوم تحت خط الفقر، في حين يعيش ما بين 10 و16 مليون شخص في مساكن غير مسجّلة، كما ارتفع عدد سكان الأحياء الفقيرة 17 مرة خلال 30 عامًا.

وقد زادت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد - 19) الوضع سوءًا؛ إذ شهدت إيران أعلى نسبة وفيات قياسًا على عدد السكان، خارج أوروبا والأميركتين خلال عامَي 2020 و2021، بسبب سوء إدارة الحكومة للأزمة وترهّل نظامها الصحي. وتذكُر إحصاءات رسمية أنّ نحو 150 ألف إيراني توفّوا بوباء كورونا، في حين قدّرت مصادر أخرى الرقم بضعف ذلك. وقد أدّت العقوبات الأميركية وسياسات الإغلاق التي اضطرّت إليها الحكومة لاحتواء انتشار الوباء إلى خفض الناتج الإجمالي القومي إلى النصف؛ إذ هبط من 450 مليار دولار عام 2019 إلى نحو 200 مليار عام 2021 بحسب بيانات البنك الدولي.

ونتيجة تعطّل سلاسل الإمداد وارتفاع أسعار السلع الأساسية على المستوى العالمي بعد الحرب في أوكرانيا بلغ مستوى التضخّم في إيران نحو 50%، وانخفض سعر صرف العملة الوطنية إلى مستوى غير مسبوق مقابل الدولار الأميركي. أما سياسيًا، فقد اتّجه النظام منذ إخماد "الثورة الخضراء" عام 2009 إلى إقصاء ما تبقّى من الاتجاهات السياسية العلنية في البلاد، بما في ذلك قوى تعدّ نفسها جزءًا من النظام، وتسعى إلى إصلاحه، وباتت السلطة متركّزة على نحو كلّي تقريبًا في يد المحافظين الذين أحكموا سيطرتهم على كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومن خلفهم الحرس الثوري الموالي للمرشد على نحو مطلق.

وقد عبّرت النسبة المتدنّية للمشاركة في الانتخابات الرئاسية التي جرت في عام 2021 وفاز فيها مرشّح النظام إبراهيم رئيسي، بعد استبعاد المرشحين الآخرين، عن سيطرة الإحباط على الشارع الإيراني من إسكات كل الأصوات المختلفة. وكانت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات الأدنى في تاريخ الجمهورية الإسلامية، حيث لم تتجاوز 49%؛ ما فُسّر بفقدان ثقة الشارع بإمكانية التغيير من خلال المشاركة في الاقتراع. ويمكن مقارنة هذه النسبة المتدنية بآخر دورتين انتخابيتين عامَي 2013 و2017، حيث شارك ما يقارب 73% من الناخبين المسجلين، في حين بلغت نسبة المشاركة 85% في انتخابات 2009.

ورغم أن رئيسي حاول مواجهة الشكوك التي أحاطت بشرعية انتخابه من خلال تبنّي سياسات تقرّبه من الشارع، فإنّه لم يفلح، بعد أكثر من عام على تولّيه مقاليد الحكم، في تحقيق أيّ من الوعود التي قطعها، فيما يتعلق بالسياسات الداخلية أو الخارجية. ففي الداخل لم تصل وعود مكافحة الفساد التي رفعها رئيسي إلى نتائج مهمة، كما لم يتمكّن من تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لملايين الإيرانيين الذين طحنتهم الأزمات أخيرا. على العكس، ازدادت خلال العام الأخير نسب الفقر في إيران وانكمشت الطبقة الوسطى، في حين استمرّت برامج الخصخصة التي انتهجتها الحكومات السابقة، رغمًا عن شعارات العدالة الاجتماعية التي رفعها رئيسي؛ ما يعني أن سياسات الخصخصة تجري على حساب مشاريع محاربة الفقر التي وعد بها. في المقابل، تضاعفت في عهده جهود إعادة تشكيل المجال العام وفق رؤية اليمين المحافظ؛ إذ تنامى دور شرطة الأخلاق، وتزايدت القيود على الحريات العامة والفردية، خصوصا المتعلقة بالمرأة.

وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فشلت حكومة رئيسي في إحياء اتفاق عام 2015 الخاص بالبرنامج النووي الإيراني، رغم شهور من المفاوضات المضنية التي تخلّلتها ثماني جولات من التفاوض غير المباشر مع الأميركيين. ورغم سياسة الاتجاه شرقًا ومحاولات تحسين العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الصين وروسيا وغيرهما، فإنّ سياسة رفع العقوبات المفروضة على إيران من خلال إعادة إحياء الاتفاق النووي ما زالت تمثّل أولوية لحكومة رئيسي، كما تبقى مدخلها الرئيس وربما الوحيد لتنفيذ وعودها بتحسين أحوال البلاد المعيشية، عبر جذب رؤوس الأموال والاستثمارات الخارجية. بالمثل، لم تتمكّن الحكومة الإيرانية، رغم الجهود التي بذلتها، من تحقيق اختراقٍ مهم في علاقاتها العربية، ولم تسفر خمس جولات من المفاوضات الأمنية المباشرة مع المملكة العربية السعودية في بغداد عن تقدّم يُذكر. وقد جرى تأجيل الجولة السادسة التي كان مزمعًا عقدها بين مسؤولين إيرانيين وسعوديين إلى أجل غير مسمّى، في ضوء تدهور الوضع السياسي والأمني في العراق، وظهور مؤشّرات على ضعف القبضة الإيرانية هناك مع فشل طهران في لمّ شمل القوى الشيعية العراقية تحت سقف حكومة توافقية.

أضف إلى ذلك أنّ العمليات التي شنّتها إسرائيل في الداخل الإيراني على امتداد العام الماضي، واستهدفت خلالها منشآت إيران النووية وبرنامجها الصاروخي ومصانع طائراتها المسيّرة وشخصياتٍ مرتبطةً بالبرنامج النووي وضباطًا في الحرس الثوري، أدّت إلى إضعاف هيبة الحكومة التي حاولت الردّ عبر استهداف مناطق في إقليم كردستان العراق الذي تنظُر إليه حكومة رئيسي باعتباره مركزَ عمليات متقدّمًا يستخدمه خصوم إيران لاستهدافها. من هذا الباب، أيضًا، استُهدف الإقليم بصواريخ بالستية وطائرات مسيّرة تزامنًا مع الاحتجاجات الأخيرة في محاولة للربط بينها وبين ما تقول إيران إنه عمليات مدبّرة من الخارج لإضعاف النظام.

آفاق الحركة الاحتجاجية

لا تمثّل الاحتجاجات التي انطلقت على خلفية مقتل مهسا أميني على أيدي عناصر شرطة الأخلاق إلى حينه تهديدًا جدّيًا للنظام الإيراني، إذ ما زالت بعد أسابيع على انطلاقتها تتسم بالعفوية وتفتقر إلى التنظيم، وهي تحظى بتشجيع وسائل الإعلام الغربية وغيرها، ولكن يبدو أنها تفتقد قيادة واضحة، ولا يزال عدد المشاركين فيها محدودًا نسبيًا. كما يلاحظ اختلاف الشعارات الاحتجاجية بحسب المناطق التي يخرج منها المحتجّون، ما يعني أن ثمّة اختلافًا واضحًا في أولويات المحتجين واهتماماتهم وأهدافهم وغياب إطار ناظم ومحرك للاحتجاجات.

بعبارة أخرى، ليس هناك تنظيم يقود الاحتجاجات ولا ما يشير إلى وجود تحالفات تعكس وحدة الأهداف بين المحتجين. ولم تبرز أيّ تصدّعات في جدار النظام، رغم صدور مواقف متعاطفة مع المحتجّين من شخصيات فنية ورياضية. ولكن أصواتا بدأت تصدُر من داخل النظام ترى ضرورة إصلاح بعض القضايا المتعلقة بتدخّله في خيارات الناس اليومية وشرطة الأخلاق. ويؤكّد تكرار الاحتجاجات تراكم الغضب والاحتقان في المجتمع الإيراني، واتساع الفجوة بين تطلعات الإيرانيين واهتماماتهم وبين سياسات حكومتهم المتصلة بقضايا داخلية ذات طبيعة اقتصادية أو اجتماعية على عكس أولويات النظام في إيران الذي يركّز على السياسة الخارجية وطموحاته الإقليمية.

ورغم صعوبة التنبؤ بمستقبل الأحداث في إيران، فإن سيناريوهات رئيسة تتوقع إمّا أن تهدأ الأحداث وتتراجع وتيرتها كما حصل في الاحتجاجات السابقة من دون تنازلاتٍ كبيرةٍ من النظام، أو مع تنازلاتٍ محدودة فيما يتعلق بتقليص فرض اللباس والمظهر الخارجي، وإمّا أن تزداد الاحتجاجات عمقًا وانتشارًا؛ ما يدفع النظام إلى استخدام مستوى أكبر من العنف في مواجهتها، على نحوٍ قد يُدخل البلاد في صراع أكبر، وإمّا أن تشكّل الاحتجاجات جرس إنذار يدفع النظام إلى إجراء إصلاحات تتجاوب مع تطلعات شرائح واسعة من الإيرانيين، وهذا أمرٌ ممكنٌ في إيران حيث توجد دولة قوية ومؤسسات راسخة قادرة على ذلك.

بحث

الأكثر قراءة